كيف ينظر الفلسطيني الى قائد بقي حاضراً في قلب قضيته عقوداً أربعة؟
قد يبدو الجواب لدى البعض، ومنهم الراحل ادوارد سعيد، جاهزاً، ففي مسار ياسر عرفات اكتمل الإخفاق السياسي بجملة صفات غير فاضلة. قد يأتي بعض آخر بجواب مختلف، ينصب الراحل زعيماً فريداً في التاريخ الفلسطيني، خلق هوية لشعبه وأوجد له كيانية سياسية مستقلة. وبداهة، فإن في الجوابين معاً ما لا يقول الصواب، وذلك لسببين أساسيين، اولهما: ان صورة ياسر عرفات توجد في صيغة الجمع لا في صيغة المفرد، وثانيهما: ان الشعب الفلسطيني، في نزوعاته المختلفة، هو الذي يقوّم معنى شخصية عرفات، بعيداً عن مواقف الاجزاء المجزوءة المتنازعة، وبعيداً أكثر عن رغبات بعض المثقفين، الذين يستشيرون <<المراجع النظرية>>، التي لا يلتفت إليها الشعب كثيراً.
إذا كان بعض المثقفين، الذين لا يعوزهم الصدق ولا تنقصهم النزاهة، قد أنكر في ممارسات ياسر عرفات أشياء كثيرة، فإن هذا الانكار كان يرتبك الى حدود التداعي، لحظة تأمل موقف الجماهير الفلسطينية الواسعة من القائد الراحل. فهذه الجماهير، وسكان المخيمات منها بشكل خاص كانت تهرع، دائما، الى نجدة زعيمها، في لحظات أزماته، وهي كثيرة ومتواترة، هازجة له رافعة صوره مرددة اسمه، كما لو كانت استطالة له أو كان استطالة نوعية لها. وهذا التلاحم بين عرفات وجماهيره الفلسطينية يفسر، ربما، بأسباب كثيرة متنوعة: كان يبدو، في معاركه المتلاحقة، رمزاً سياسياً يدافع عن حق شعبه في القرار السياسي المستقل، إن لم تكن هذه المعارك، التي كان يدفع إليها دفعاً، هي التي جعلت منه رمزاً سياسياً لا يطاول. وقد ساعد على ذلك وأسنده ان معظم هذه المعارك كانت بين عرفات والانظمة العربية، التي ترجمها، ذات مرة، بجملة مؤسسية: <<يا وحدنا>>، التي كانت تلائم مزاجاً فلسطينياً، أدمن الشعور بالغبن والتخلي والمطاردة.
كان عرفات في كوفيته الطويلة العهد، التي ارتداها حين كان طالباً في القاهرة، في منتصف القرن الماضي، وفي عقاله، الذي يثير أطياف ثورة 1936، مرآة لروح فلسطينية غامضة، أو هكذا كان يبدو، أو صورة عن فلاح فلسطيني قديم، يختلف الى مدن عربية كثيرة ويحيط نفسه بالحرس وبأكثر من الحرس، ويظل فلاحاً، يحمل في لباسه أطياف الريف الفلسطيني المنقضي. ولعل هذه الصورة التي اكتملت بمسدس لا يفارق خاصرته، هي التي جعلت منه امتداداً للماضي في الحاضر، أو تعبيراً عن حاضر فلسطيني مطلق. لا غرابة، وقد التبس الحاضر بالماضي، والمخيم بالقرية الراحلة، ان يدعى عرفات، ومنذ زمن، بلقب موافق هو: <<الختيار>>، أي ذلك العجوز الذي توزع على المنفى والوطن السليب. وواقع الامر، ان الشعب الفلسطيني الذي لم يتحرر من وعيه الريفي، رأى في عرفات الذي كان يزهد بالاناقة ويترك لحيته بلا تهذيب، أباً أو جداً أو زعيم العائلة و<<الحمولة>>، يتحدث قبل الحصار عن فلسطين، فإن هزمه الحصار وذهب الى موقع جديد قال: <<أنا ذاهب الى فلسطين>>.
صدرت صورة عرفات، في وعي الفلسطينيين ولاوعيهم، عن صورة الفلاح الفلسطيني المقاتل القديم، كما لو كانت رموزه وإشاراته قد مسحت وجهه وممارساته، واستبقت منه هالة غامضة، تذكّر الفلسطينيين بطقوس عزيزة على قلوبهم، لا سبيل الى اقتلاعها. ولعل الرجوع الى صورة <<عبد القادر الحسيني>>، قائد معركة القسطل وشهيدها عام 1948، التي يضعها الفلسطينيون على جدران بيوتهم، حتى اليوم، توقظ الشبه الكبير بين صورة عرفات وصور سابقة سكنت اللاوعي الفلسطيني. وقد عمل عرفات، بوعي حسوب، على تثبيت <<الأطياف>> التي ينجذب إليها شعبه. وهو ما جعله، وفي جملة ممارسات لا تنقصها المفارقة، يبدو متطهراً وشديد التطهر، متقشف الأكل واللباس زاهداً بالراحة ووسائل الراحة، يغدق على غيره النعمة الى حدود البطر، ويحتفظ لنفسه بعيش خشن وشديد الخشونة. وإضافة الى الزهد، حقيقياً كان أو مصطنعاً، بدا الرجل لعارفيه متديناً، يواظب على الصلاة ولا يقرب الخمرة ويضع على حديثه أصباغاً دينية. في كل هذا بدا عرفات لشعبه أباً قديماً، وأباً ريفياً يحافظ على التقاليد، يكمل مشوار عبد القادر الحسيني ويعد باستقلال البلاد.
احتل المخيم، ولا يزال، مساحة واسعة في الوعي الفلسطيني الشقي، فهو المكان الآخر الذي تطرده المدينة ويهرب من المدينة، انه مرآة الاختلاف، التي تفصل بين الاسوياء من البشر وهؤلاء الاشقياء، الذين يميزهم مكانهم من الآخرين. كان في ياسر عرفات، وهو يقف بين غيره من الزعماء العرب، ما يعكس اختلاف المخيم عن المدينة وتباين <<أولاد المخيم>> عن أولاد <<أبناء العائلات>>.
وإذا كان في المخيم بعد إشاري يكثف معنى النكبة الفلسطينية، فقد كانت هيئة عرفات إشارة ثانية، تطابق البعد الاشاري الاول وتعبّر عن جوهر القضية الفلسطينية. ولم يكن المخيم، على مستوى الواقع والاشارة، إلا القرية الفلسطينية القديمة، التي كانت تقاتل دفاعاً عن الوطن كله، تاركة لأبناء المدن شؤون الحديث والقيادة والبلاغة. في هذه العلاقة، التي كان المخيم فيها ينتمي الى قائده وينتمي فيها الاخير الى المدن والقرى، أصبح عرفات قائداً للشعب الفلسطيني كله، انه القائد الاشارة، أو القائد الجوهري، الذي ينطق باسم الكل ويستطيع هزيمة الاجزاء.
ولهذا بدا الدكتور جورج حبش، المهذب الخلوق خريج الجامعة الاميركية قائداً لفصيل، وظهر نايف حواتمة، المثقف البليغ والخطيب الطويل النفس، مسؤولا لتنظيم، وكان الزعماء في تنظيم <<فتح>> زعماء على تنظيمهم، على خلاف ياسر عرفات الذي عاش قائداً للشعب الفلسطيني. وسواء كان لدى عرفات من الكفاءة والفصائل ما يؤهله ان يصبح ما أصبحه، فقد كان في مساره، وهو الراحل من مكان الى آخر والمختلف من حصار الى حصار، ما يختصر أشياء كثيرة من أقدار <<اللاجئين>>، كما لو كانت الاقدار هي التي خلقت منه أسطورة، بعيداً عن رغبة شعبه، وبعيداً أكثر عن إمكانياته الذاتية.
أمران آخران ساعدا في تخليق صورة عرفات فلسطينياً: لم يعرف الفلسطينيون، في القرن العشرين كله، زعيماً حقيقياً ناطقاً باسمهم وينتسبون إليه، كان هناك، قبل سقوط فلسطين، شظايا من الزعماء والمتزعمين، استثمروا القضية الوطنية لمآرب ومصالح شخصية. ومع ان ظهور <<الحاج أمين الحسيني>> قد أقنع الشعب الفلسطيني، فترة من الزمن، بأنه ظفر بزعيم يليق بقضيته، فقد جاء انتصار المشروع الصهيوني ليلقي بالشعب وبزعمائه في ديار المنفى والهزيمة. لهذا بدا عرفات، القائد الذي طال عهده، أول مسؤول حقيقي لقضية سياسية وطنية، فهو مسؤول في <<فتح>> ورئيس منظمة التحرير وقائد المعارك الفلسطينية ورئيس أول سلطة فلسطينية منذ زمن طويل. ولم يكن طول عهده هو ما ميّزه فقط من غيره، بل كانت هناك ايضا وعوده المفتوحة على المستقبل، اذ النصر قريب أو شبه قريب، واذ عرفات شاهراً إصبعين منفرجين تعلنان النصر... ولعل هذه الاقدار التي اختلطت فيها الوقائع المحسوبة بالصدف السعيدة، هي التي أعطته صورة <<المنقذ>> و<<المخلّص>> و<<الرمز>> الذي <<يفديه أهل المخيمات بأرواحهم>>.
ساعد على ذلك عرفات نفسه، الذي كان يعشق المرايا التي تظهر صورته مفرداً ووحيداً، وايديولوجيا شعبوية، هي مرآة لشخصيته، تقول أشياء كثيرة ولا تحدد شيئاً، تكره القول المحدد ولا ترتاح الى الذين يطالبون بالتحديد. ولهذا سار الشعب الفلسطيني طويلاً مفتوناً بعمومية ايديولوجية تتصادى فيها كلمات غائمة فاتنة هي: فلسطين والعودة والكفاح المسلح... كانت هذه العموميات، أو السياسة الشعاراتية تعبيراً مطابقاً عن شخصية متفردة، ترى في التعميم شرطاً لحرية مطلقة، يفعل صاحبها ما يريد ولا يحاسبه أحد، ويتغير ويتبدل مطمئناً الى ذاته واجتهاده الذاتي. وساعد على ذلك المخيم الذي امتدت به وفيه القرية القديمة، التي أوكلت الى أبنائها مهنة القتال والشهادة، وأوكلت الى <<الزعيم>> مهنة القيادة وتصريف الامور. ولعل هذه الثنائية القديمة والجديدة هي التي أقصت <<أبناء المخيم>> المقاتلين عن مواقع القيادة مكتفية، في أحيان كثيرة، باستيراد <<أصحاب الكفاءات>>، الذين يتحدثون بأسماء المقاتلين دون أن يزوروا مواقعهم. مفارقة مؤسسية استعادت فيها <<الثورة>> ثنائية الفقراء والوجهاء القديمة، وذلك في شرط جديد يستولد <<الوجهاء الجدد>> من <<العمومية الايديولوجية>>، التي تطرد معنى النقد والمحاسبة وتقويم الامور تقويماً عادلاً.
على الرغم من ثنائية الفقراء والوجهاء التي استعادت من التاريخ السياسي الفلسطيني وجهاً من أكثر وجوهه سلبية، فقد فصل الشعب الفلسطيني، الذي آمن بالقائد الرمز، بين عرفات وإدارته، طالما ان في هيئة الاخير ما يعلن عن الزهد والتقشف والذوبان الكامل في القضية الوطنية. بل ان هذا الشعب كان مستعداً، ولا يزال، للفصل بين عرفات وحاشيته، كما لو كان قد أضاف الى زعيمه الحقيقي المشخص زعيماً آخر، ان لم يكن فاضلاً بقدر كان جامعاً للفضيلة في وجوهها كلها. من هنا يأتي ذلك السؤال الصعب وهو التالي: هل هو بؤس الفلسطينيين في المنافي والشتات وعسف الحدود العربية هو الذي خلق صورة عرفات الفاضلة والمجيدة، ام ان في مسار عرفات الذي أعطى اللاجئين أملاً يحتاجونه، ما خلق موضوعياً صورة قائد تلتبس فيها الفضيلة بحلم تحرير فلسطين؟ ربما تنوس الاجابة بين الاحتمالين معا منذ أن نجح عرفات، ذات مرة، في بناء خيمة جديدة تختلف عن تلك الخيام التي كانت غارقة في البؤس والمهانة.
يستطيع الفلسطيني العادي ان يبرر انتماءه الى عرفات بأسباب كثيرة: أعطاه الكفاح الوطني وجعله ينزع عن المعركة صور <<الزعماء العرب>> ويضع صورة مغايرة للصور السلطوية الشائعة. إضافة الى هذا صدر عن ذاك الكفاح <<كيانية سياسية فلسطينية>>، اعترفت بها الامم المتحدة، وجعلت من صورة عرفات التي هي صورة فلسطين، صورة معروفة في العالم أجمع. ولعل هذه الصور هي التي أملت على سياسي حسوب وشديد الحسبان أن يتمسك بالحقوق الفلسطينية في القدس، وان يتنازل بقدر وان يفاوض بقدر وان يقاتل بقدر، الى ان انتهى الى بقعة محاصرة ضيقة ومأساوية: زعيم فائض عن الحاجة في شرط عربي لا ينصر أحداً، وزعيم فائض عن الحاجة لا يقبل بأن يهدم صورته في الوعي الشعبي الفلسطيني: انه المهزوم المنتصر، أو انه ذلك المنتصر الحزين، الذي يتوسل النصر في رفضه للهزيمة، والذي يرفض، وهو المحاصر الفقير، أن يلتحق بالصفوف الرسمية العربية الطويلة، التي تتنازل بلا قلق ولا حسبان.
لم يخذل عرفات، في سنوات القهر والحصار، شعبه، بعد أن أدرك ان <<التشاطر>> ينقذ المتشاطرين ويهلك غيرهم، مؤمناً بأنه سياسي فقير يدافع عن شعب فقير في شروط أكثر فقراً، وان <<الفقراء لا يرثون شيئاً>>. في هذا الفضاء المحاصر بالفقر وبقوى ظالمة الظلم كله واخرى مستسلمة الاستسلام كله، بدا عرفات، في سنواته الاخيرة، زعيماً زائداً، أو قائداً انتهى زمانه وعليه الرحيل، فآثر الامل والصمود والاكتفاء بالقليل، الى ان أخذه الى الموت تسميم بطيء، دون أن يغتال صورته القديمة، كما لو كان في رحيله المسموم يترك للفلسطينيين أملاً جديداً. هكذا تبدأ الاساطير من الاحلام والرغبات، وهكذا ترحل الاساطير، بعد أن يقع الحالمون في التعب والدوار والحسابات الخاطئة.
سؤال أخير لا هرب منه يقول: اذا كان كل أمير جدير بالامارة يتكاثر، بعد رحيله، الى أمراء جديرين بالامارة ايضا، فمن هم <<الامراء الجدد>>، الذين تركهم عرفات وراءه؟
سؤال مزدوج المعنى، قد يشير الى الفراغ الذي تركه عرفات وراءه، وقد يشير ايضا الى الفراغ السياسي الطويل، الذي كان يزامل عرفات، وهو على قيد الحياة، آمراً، ناهياً، ناظراً الى مرآة واحدة وحيدة، تزجر الوجوه التي لا ترضى بالخطأ!!!.