حبيبي الغالي: هذا ثمن الحرية.. جهاد وتضحية!!
الحُريَّة مِنحةٌ إلهية، وضرورةٌ أخلاقية، ومنظومةٌ حياتيَّة، طريق التقدُّم والازْدِهار، وسبيلُ العِزَّة والفَخار، ومُعين الجِهاد والإصْرار، ومصدر العِلم والابْتِكار، ورُوح الرهبان باللَّيْل الفُرسان بالنَّهار، لا تُعطَى لأيِّ شخص، ولا تُمنح لأيِّ فرْد، فقط لمَن قدَّم لها، لمَن مهَّد لها، لمَن دفَع ثمنَها، وأراد أن يستظلَّ بِظلِّها.
حبيبي الغالي:
فَقَدَ حُريَّتَه: مَن عاش عبدًا لدنياه، مطواعًا لأوامرها، أسيرًا لقيودها، تلفُّه الشهوات كما يلفُّ الخاتمُ الأصبع، ويدور حولها كما يدور الثورُ في الساقية.
فَقَدَ حُريَّتَه: مَن اتَّبع هواه، كلَّما اشتهى اشترى، وكلَّما ملَك انبرى، وكلما حَكَم افترى.
فَقَدَ حُريَّتَه: مَن فقَدَ الأمل، فراح يسوغُ لليأس، ويبثُّ القنوط، يعيش السلبية، ويقتُل الإيجابية.
فَقَدَ حُريَّتَه: مَن تنازَلَ عن حقِّه، واستسلم لسارقِه، وعاش راضيًا بالذِّلَّة والصَّغار.
فَقَدَ حُريَّتَه: مَن رضِي بالخضوع، وعاش الخنوع، وارتمى في أحضانِ الجهل والجوع.
فَقَدَ حُريَّتَه: مَن غضِب لنفسه لا لربِّه، وغضِب لدُنياه لا لدِينه، غضِب لمصلحته لا لمصلحةِ المجموع.
فَقَدَ حُريَّتَه: مَن داهن مِن أجل التملُّق والوصول، وأقام حياتَه على النِّفاق والغلول، وبنَى طريقَه على (الفهْلوة) والفضول.
حبيبي الغالي:
خُلقتَ لتكونَ عبدًا لله لا تَعبُد غيره، ولا تستعن بسواه؛ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، وهذه مهمَّتُك في الحياة؛ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، تَأتمِر بأمره، وتَنتهي عن نهيه، وتنتهج نهجَه، وتتَّبع نبيَّه، عندَ ذلك أنت حرٌّ ولو غُيِّبْتَ، أنت حرٌّ ولو أُسِرت، أنت حر ولو قُتِلت.
ابن تيمية - رحمه الله - كان حُرًّا حينما قال في شِدَّته: "جَنَّتي في بُستاني، وبُستاني في صَدْري، فإنْ نفَوْني فنفيي سياحة، وإن قتَلُوني فقَتْلى شهادة، وإن سَجنوني فسجني خلوة".
وسَحَرةُ فرعون كانوا عبيدًا لفرعون عندما ﴿ أَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الشعراء: 44]، فَقَدوا حُريَّتهم وكانوا عبيدًا للأجْر، متى؟ ﴿ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴾[الأعراف: 113].
أمَّا عندما خالطَ الإيمانُ بشاشةَ قلوبهم استفاقوا، فلَبِسوا ثوبَ الحريَّة الحقيقيَّة، فلم يُبالوا بالتهديدِ والوعيد، واستهانوا بالدنيا ولم يَجْزعوا من الموت يقولون للطاغية فرعون وهم في ثبات الجبال: ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72]، إنَّهم لا يَحرِصون على شيءٍ عنده، ولا يخافون على شيء عندهم، فلماذا يهينون أو يضعفون؟!
كلاَّ، لقدِ انقلبوا من أتباعٍ له إلى دعاة يُبشِّرون ويُنذرون؛ ﴿ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 73].
حبيبي الغالي:
ثَمَن الحريَّة عبادةٌ وتقوى وإيمانٌ، فهل حققت؟ ثمن الحرية: صلاة فجْر، وقيام ليل، وقراءة قرآن، فهل فعَلت؟ ثمن الحرية: بذلٌ وسخاء، جهادٌ وعطاء، فهل أعْطَيت؟ ثمن الحرية: قيام فرائض، وأداء سُنن، وتذكُّر وتفكُّر، فهل أدَّيْت؟ ثمن الحرية: مقاوَمةٌ للباطِل، وشجاعةٌ في الحق، وتفقُّه في الدِّين، فهل دَفَعْتَ؟!
المسلم وُلِد حرًّا وهو ذاته مَن يحافِظ على هذه الحريَّة، وإلا استسلم للقيود المُصطَنعة، والسلاسل المخترَعة، والأغلال المجتَمعة، وصَدق الفاروق حين قال: "متى استعبدتُم الناسَ وقد ولدتْهم أمهاتُهم أحرارًا؟".
الذين يُفرِّطون في الحرية، يَفقدون التُّقى والإيمان، ويَعيشون الذلَّ والهوان، ويُشوِّهون الزمان والمكان، يأتي الله بغيرِهم، بينما يذهبون هم - كما يُقال - في خبَر كان، كيف؟ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54].
الذي يُفرِّط في حُريته حتمًا يفرِّط في كرامته، وتسقط هيبته، ويُحتسب في عدادِ الموتى.
قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمُهُمْ
وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْوَاتُ
بل قد يكون الموتى أحسنَ حالاً وأفضل مآلاً!
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ
إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ إِنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيبًا
كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرَّجَاءِ
فاعرفْ لنفسك حقَّها، ولا تُوردها مواردَ الذلَّة.
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْرِفْ لِنَفْسِكَ حَقَّهَا
هَوَانًا بِهَا كَانَتْ عَلَى النَّاسِ أَهْوَنَا
فَنَفْسَكَ أَكْرِمْهَا وَإِنْ ضَاقَ مَسْكَنٌ
عَلَيْكَ لَهَا فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ مَسْكَنَا
وَإِيَّاكَ وَالسُّكْنَى بِمَنْزِلِ ذِلَّةٍ
يُعَدُّ مُسِيئًا فِيهِ مَنْ كَانَ مُحْسِنَا
هذه هي الحياة، حرية مِن أجل الجهاد والتوحيد، وجهاد وتوحيد وتضحية من أجل الحرية، كما قال محمد إقبال:
كُنَّا جِبَالاً فِي الجِبَالِ وَرُبَّمَا
سِرْنَا عَلَى وَجْهِ البِحَارِ بِحَارَا
لَمْ تَنْسَ إِفْرِيقَيَا وَلاَ صَحْرَاؤُهَا
سَجَدَاتِنَا وَالأَرْضُ تَقْذِفُ نَارَا
كُنَّا نُقَدِّمُ لِلسُّيُوفِ صُدُورَنَا
لَمْ نَخْشَ يَوْمًا غَاشِمًا غَدَّارَا
بِمَعَابِدِ الإِفْرِنْجِ كَانَ أَذَانُنَا
قَبْلَ الْكَتَائِبِ يَفْتَحُ الْأَمْصَارَا
نَدْعُو جِهَارًا لاَ إِلَهَ سِوَى الَّذِي
فَطَرَ الوُجُودَ وَقَدَّرَ الْأَقْدَارَا
يقول عنترة وهو يتنفس حرية وعزة:
لاَ تَسْقِنِي مَاءَ الحَيَاةِ بِذِلَّةٍ
بَلْ فَاسْقِنِي بِالْعِزِّ كَأْسَ الْحَنْظَلِ
ولقدْ رُوي أنَّ أحدَ الصالحين حين أحسَّ بدنوِّ أجلِه قام واغتسل وصلَّى ركعتين، وما هي إلا بُرهة حتى دخَلوا عليه فوجدوه قدْ مات مُستقبِلَ القِبلة، وعندَ رأسه هذه الأبيات:
قُلْ لِإِخْوَانٍ رَأَوْنِي مَيِّتًا
فَبَكَوْنِي وَرَثَوْنِي حُزَّنَا
أَتَظُنُّونَ بِأَنِّي مَيْتُكُمْ
لَيْسَ هَذَا المَيْتُ وَاللَّهِ
أَنَا أَنَا فِي الصُّورِ
وَهَذَا جَسَدِي
كَانَ ثَوْبِي وَقَمِيصِي زَمَنَا
أَنَا عُصْفُورٌ وَهَذَا قَفَصِي
طِرْتُ عَنْهُ وَبَقِي مُرْتَهَنَا
أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي خَلَّصَنِي
وَبَنَى لِي فِي الْمَعَالِي مَسْكَنَا
لاَ تَظُنُّوا الْمَوْتَ مَوْتًا إِنَّهُ
لَيْسَ إِلاَّ نَقْلَةً مِنْ هَا هُنَا
وتَغنَّى الإمام الشافعي قائلاً:
أَنَا إِنْ عِشْتُ لَسْتُ أَعْدَمُ قُوتًا
وَإِذَا مِتُّ لَسْتُ أَعْدَمُ قَبْرَا
هِمَّتِي هِمَّةُ المُلُوكِ وَنَفْسِي
نَفْسُ حُرٍّ تَرَى المَذَلَّةَ كُفْرَا
وَإِذَا مَا قَنَعْتُ بِالقُوتِ عُمْرِي
فَلِمَاذَا أَخَافُ زَيْدًا وَعَمْرَا
وما أروعَ هذه المقتطفاتِ مِن أبيات الحرِّ الأبيِّ الشهيد صاحبِ "الظِّلال":
أَخِي أَنْتَ حُرٌّ وَرَاءَ السُّدُودْ
أَخِي أَنْتَ حُرٌّ بِتِلْكَ القُيُودْ
إِذَا كُنْتَ بِاللَّهِ مُسْتَعْصِمًا
فَمَاذَا يَضِيرُكَ كَيْدُ العَبِيدْ؟
أَخِي سَتَبِيدُ جُيُوشُ الظَّلاَم
وَيُشْرِقُ فِي الْكَوْنِ فَجْرٌ جَدِيدْ
فَأَطْلِقْ لِرُوحِكَ إِشْرَاقَهَا
تَرَ الْفَجْرَ يَرْمُقُنَا مِنْ بَعِيدْ
أَخِي هَلْ تُرَاكَ سَئِمْتَ الكِفَاحْ
وَأَلْقَيْتَ عَنْ كَاهِلَيْكَ السِّلاَحْ؟
فَمَنْ لِلضَّحَايَا يُواسِي الجِرَاحْ
وَيَرْفَعُ رَايَتَهَا مِنْ جَدِيدْ؟
أَخِي إِنْ ذَرَفْتَ عَلَيَّ الدُّمُوعْ
وَبَلَّلْتَ قَبْرِي بِهَا فِي خُشُوعْ
فَأَوْقِدْ لَهُمْ مِنْ رُفَاتِي الشُّمُوعْ
وَسِيرُوا بِهَا نَحْوَ فَجْرٍ تَلِيدْ
أَخِي إِنْ نَمُتْ نَلْقَ أَحْبَابَنَا
فَرَوْضَاتُ رَبِّي أُعِدَّتْ لَنَا
وَأَطْيَارُهَا رَفْرَفَتْ حَوْلَنَا
فَطُوبَي لَنَا فِي دِيَارِ الخُلُودْ
أَخِي إِنَّنِي مَا سَئِمْتُ الكِفَاحْ
وَلاَ أَنَا أَلْقَيْتُ عَنِّي السِّلاَحْ
فَإِنْ أَنَا مِتُّ فَإِنِّي شَهِيدْ
وَأَنْتَ سَتَمْضِي بِنَصْرٍ مَجِيدْ
فَإِمَّا إِلَى النَّصْرِ فَوْقَ الأَنَامْ
وَإِمَّا إِلَى اللَّهِ فِي الخَالِدِينْ
حبيبي الغالي:
ماذا فقَد مَن وجَد الله؟ وماذا وجَد مَن فقَدَ الله؟ إذا كان الله معك فمَن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمَن معك؟
مَن وجَد الله وجَد حريتَه وكرامتَه وعِزَّته، ومَن فقَدَ الله فقَدَ كلَّ شيء.
اللهمَّ فقِّهنا في دِيننا، وفهِّمنا شِرعة ربِّنا، اللهمَّ ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ همِّنا ولا مبلغَ عِلمنا، وصلِّ اللهمَّ على سيدنا محمد، وعلى أهله وصحْبه وسلِّم، والحمدُ لله ربِّ العالمين.