قصة قصيرة / نزيل الشرفة الخامسة ... جمال قاسم السلومي من أين تأتي هذه المصائبُ ؟ سؤالٌ طرحه أبو خالد على نفسه بصوتٍ متأففٍ مسموعٍ وهو ينقلُ أثاثَ بيته إلى مكانِ سكناه الجديد .
منذُ أشهرٍ أحلْتُ على التقاعد ، وبعدها بأيامٍ أخبروني بأنَّه يتوجبُ عليَّ إخلاءُ بيتي لأنه يشغلُ موقعاً أثرياً . ولما علمَتْ أمُّ خالدٍ بأمرِ الإخلاءِ أبَتْ أن تغادرَ جنَّتَها ، وموئِلَ شبابها ومهدَ تبرعمِ أمومتها فانتقلتْ ولكنْ إلى جوارِ خالقِها .
وهاهو أبو خالدٍ ينتقلُ إلى شُقَّةٍ أعطوه إيَّاها بدلاً عن بيته على أن يدفَعَ ثمنَها على أقساطٍ شهريةٍ لمدةٍ تتجاوزُ الخمسةَ عشر عاماً .
ولمَّا لمْ يبقَ منَ العمرِ ما يأسفُ عليه فقد آثرَ أن يشاطرَهُ الشقَّةَ ما بقيَ له من أفرادِ أسرتِهِ . وهكذا أصبَحَ أبو خالدٍ ضيفاً في بيته الذي آلَ إليه . الشقَّةُ في الطابقِ الخامسِ تشرفُ على ساحةٍ صغيرةٍ من جهةٍ ، ومن الجهةِ الأخرى وعلى بعد خمسينَ متراً يقعُ السكنُ الجامِعِيُّ للطالباتِ .
أمضى أبو خالدٍ زهاءَ أربعينَ عاماً ككاتبٍ في إحدى الدَّوائِرِ الحكومِيَّةِ وقد عملَ جاهِداً على أن يحافِظَ على أناقَتِهِ ولياقتِهِ ، فاعتنى بهندامِهِ ، وصبغَ شعرَهُ حتى بدا أصغر سناً ، وقد يظنُّ النَّاظرُ إليه عن بعد أنَّهُ شابٌّ في مقتبلِ العمرِ .
أصيبَ أبو خالدٍ نزيلُ الطابقِ الخامسِ بالمللِ ، وأحسَّ بالبرودةِ تسري في عظامِهِ ، وأدرَكَ أنَّ الذُّبولَ يمْتَدُّ إلى عينيه وقلبِهِ ، فقالَ لنفسه :
أحتاجُ إلى صدرٍ حنونٍ أريحُ عليه رأسي وأبكي ، صدرٍ يسمعُ صراخِي
ويحسُّ بردي ، ويمسحُ حزني ووحدتي ، ويبددُ ثقلَ ثوانِيَّ ودقائِقِي .
أدمنَ أبو خالدٍ الجلوسَ في شرفتِهِ ، ولفافَةُ التَّبْغِ بين شفتيه وفنجانُ القهوةِ في يدِهِ . وأدمَنَ النَّظَرَ إلى نزيلاتِ السَّكنِ الجامِعِيِّ .
صبيَّةٌ بعمرِ الوردِ جاءَتْ من مدينتِهَا البعيدَةِ لتقدِّمَ مادةً أخيرةً لها
فهي قابَ قوسينِ أو أدنى منَ التَّخرُّجِ ، ملَّتِ الصَّبِيَّةُ من كتبِها ودفاترِهَا ، وطالَ الأمدُ عليها معَ مادَّةٍ تعتقِدُ أنَّها تعرِفُ فيها كلَّ سطرٍ وكلمَةٍ وكلَّ نقطةٍ وفاصلةٍ .
أرادَتِ الصَّبِيَّةُ أنْ تمرحَ ، وأنْ تُرَوِّحَ عن نفسِها ولمْ تجدْ إلاَّ هذا الرجلَ الذي يجلسُ في شرفَتِهِ مقابِلاًً لها . عيناهُ تخترقانِ سجونَ وحدَتِهَا ، وأوهامُهُ تتحَسَّسُ ملمَسَ بشرتِهَا ، ولفافَةُ التَّبْغِ في فمِهِ ينفثُ دخانَهَا على مهْلٍ وبرَوِيَّةِ.
رفََعَتْ يدَها ، لوَّحَتْ بأنامِلِهَا ، أومأَتْ برأسِهَا ، تملمَلَ أبو خالدٍ في جِلْسَتِهِ وتحَسَّسَ موضِعَاً للشبابِ في لياقَتِهِ . ولمَّا تعثَّرَتْ يدُهُ في إدراكِ غايَتِهَا ، ظَنَّ أنَّ الأمرَ لا يعْنيهِ .
وعادَتِ الصَّبِيَّةُ تطارِدُهُ بنظراتِهَا الحالمَةِ والواعدَةِ وبأنامِلِهَا الملوِّحَةِ التي تحمِلُهُ على جناحَيْ عصفورٍ .
وضعتْ ساعتَهَا في عينِ الشَّمْسِ الحمِئَةِ وأومأَتْ إليهِ عبرَ مرآتِهَا أنْ حانَ موعِدُ اللقاءِ . لكنَّ العقربين ما زالا بعيديَنِ والمسافَةُ بينهما زمنٌ يكادُ لا ينتهي ُطارَ قلبُه ، وتصبَّبَ العرقُ بارداً على جبينِهِ ، لعقَ شفَتَيْهِ ، وأدارَ لسانَهُ في فُوَّهَةِ فمِهِ ، وتلفَّتَ حولَهُ ، ونظرَ في الشُّرُفَاتِ التي تجاوِرُهُ فلمْ يجدْ أحداً ، وأيقنَ أنَّ الرسالَةَ تعنيهِ .
ابتَسَمَ ابتسامَةً عريضةً بلهاءَ ، وتثاءَبَ في جِلْسَتِهِ وقدْ أوجَعَتْهُ لحظاتُ الانتظارِ وهو يمَنِّي النَّفْسَ بالتَّالي .
وتتهاوى اليدُ المُلَوِّحَةُ على غيرِ اكتراثٍ تنْذِرُهُ بسرعَةِ الاستجابَةِ وإلاَّ...
انخلعَ قلبُه من جُنُبَاِتِ صدرِهِ وأحسَّ بحزنٍ مريرٍ ، وبخيبَةِ أملٍ عارِمَةٍ .
ومنْ جديدٍ تعاوِدُ الصَّبِيَّةُ اللعِبَ بأعصابِهِ وعواطِفِهِ ، فترفَعُ يدَهَا وتلوِّحُ أكثرَ وتوحِي إليه بأنَّهُ المقصودُ . وتدعوه عِبْرَ رسالةٍ هوائِيَّةٍ إلى مشوارٍ يجمعُهُمَا معاً .
طارَ قلبُه من الفرحِ ، وتبرعَمَ بوحُ السِّرِّ في داخِلِهِ ، وتعطَّرَتْ ذاكرتُهُ بألفِ لونٍ منَ السَّعادَةِ والتَّعَبِ والإعياءِ .
وقالَ حالمَاً : دعي أنوثَتَكِ تنضُجُ ، وكوني في ذاكرتي مضجعاً للممكنِ ،ِ فمذاقُكِ سيصْبِحُ أكْثَرَ َلذةً ، عِنْدَها أبَدِّدُ غماماتِ الحزنِ ، وأرتقي سلَّمَ الفَرَحِ
ولكنها لم تغادرْ مكانَهَا ، ولم تغَيِّرْ من وقْفَتِهَا . وتساءَلَ في سرِّهِ المحزونِ:
ما بالُهَا ؟ وماذا تنْتَظِرُ ؟ ومنْ تكونُ هذه الغادةُ الحسناء ؟ .
وأقْسَمَ بصوتٍ مسموعٍ قائِلاً : لئِنْ اجتمعْنَا في مكانٍ واحدٍ ،
أو سارَتْ بجانِبِي في طريقٍ ما ، ما عرفْتُهَا .
ويتمخَّضُ الفأْرُ عنْ جبلٍ منَ الأحلامِ :
صحيحٌ أنَّه تنقُصُنِي الجرأَةُ لأقِفَ بينَ يدي صبيَّةٍ تصغُرُنِي بأكثرَ منْ أربعينَ عاماً، ومع ذلك فلنْ أخافَ ، ولنْ أتراجعَ عن قبولِ دعوةِ غزلِهَا الصَّريحِ .
وسأرْسُمُهَا في لوحَةَ أحلامِي . وقد أتناسى إلى حينٍ سنواتِ عمري المديدةٍ ، وأنتَظِرُ انعتاقَ روحِي من عبودِيَّةِ التَّرَمُّلِ .
كانَ يراها على البعدِ كتلَةً هُلامِيَّةً تُطَوِّعُهَا مخيلتُهُ بالشَّكْلِ الذي يريدُهُ ويتمنِّاهُ .
وهاهو أبو خالدٍ في شرفتِهِ من جديدٍ ، وعيناهُ مسمرتانِ على شرفَتِهَا وقلبُهُ معلَّقٌ بخيطٍ خفِيٍّ منْ أناملِهَا ، ولكنَّ شيئاً ما قد تغيَّرَ فيها .
فلمْ تعدْ نظراتُهَا ترمُقُهُ وترهِقَهُ ، ولمْ تعدْ أناملُهَا تلوِّحُ له ولمْ تعدْ تهتَمُّ لنظراتِهِ وإشاراتِهِ وهمساتِهِ .
بلْ بدا له أنَّها بدأَتْ تتبرَّمُ منْ ألعابِهِ الصبيانيةِ العابثةِ ، وقد تعَمَّدَتْ أن تشيحَ بوجهِهَا عن توسلاتِهِ . كأنَّهَا لمْ تعرفْهُ منْ قبْلُ .
وظَنَّهَا قدْ انْشَغَلَتْ عنْهُ بشخصٍ آخرَ ، فأخذتْهُ العِزَّةُ ، وأرادَ أنْ ينتَقِمَ لنفسِهِ .
في ذلك المساءِ و بعدَ أنْ مضى أفرادُ أسرتِهِ إلى أسرَّتِهِم اسْتَوى أبو خالدٍ في شرفتِهِ، و بدأ يطاردُ الصَّبِيَّةَ بنظراتِهِ الثاقبَةِ ، وإشاراتِهِ الوقِحَةِ ، ويبوحُ لها بسرِهِ الدفين، وكأنَّهُ مراهِقٌ في العشرينَ منْ عمرِهِ .
وفجأةً سمعَ فحيحَ جرسِ البابِ ، فأسرعَ ليستطلعَ عنِ القادمِ .
وجهاً لوجْهٍ وجدَ نفسَهُ أمامَ شرطِيٍّ يتساءَلُ عن شابٍّ وقحٍ في الشُّرْفَةِ يتصرَّفُ برعونَةٍ شائِنَةٍ مع طالبةٍ قدْ نزلَتْ اليومَ في السَّكَنِ الجامِعِيٍّ .
غامَ المساءُ على أبي خالدٍ ، وسرحً بمخَيِّلَتِهِ في الفيافي المقفِرَةِ ، فاصْفَرَّ وجْهُهُ، وارتعدَتْ فرائصُهُ ، وأيقَنَ أنَّ فتاةَ اليومِ غير فتاةِ الأمسِ .
فتلعْثَمَ لسانُهُ، وجفَّ حلقُهُ ، وضاعَتْ كلماتُهُ وحروفُهُ ، وهو يقْنِعُ الشُّرْطِيَّ بأنَّ خطأً ما قد وقعَ ، وخرَّ مغْشِيَّاً عليه تحتْ وطأةِ أقدامِ المفاجَأَةِ .
خرجَ أهلُ بيتِهِ مذهولين ، فوجدُوهُ مبَعْثَراً على الأرضِ لا حولَ له ولا قوةً.
تأسَّفَ الشُّرْطِيُّ عمَّا سبَّبَهُ منْ إزعاجٍ وولَّى هارِبَاً .