لقد اعطى الاسلام الفرد حقوقا مثل الحقوق التي اعطته اياه المدنية المعاصرة ولكن حصرتها بقيود تتناسب والظروف الاجتماعية والبيئية التي يعيشها الفرد. وجميع هذه الحقوق على تعددها ترجع إلى أمرين عامين: الأول الحرية الشخصية، والثاني المساواة بين الأفراد في الحقوق المدنية والسياسية.
الحرية الشخصية
المراد من الحرية الشخصية أن يكون الشخص قادراً على التصرف في شؤون نفسه وفي كل ما يتعلق بذاته، آمناً من الاعتداء عليه في
نفس أو عرض أو مال أو مأوى أو أي حق من حقوقه، على أن لا يكون في تصرفه عدوان على غيره. ومن هذا التعريف يتبين أن
الحرية الشخصية تتحقق بتحقق أمور؛ وأنها معنى مكون من حريات عدة وهي: حرية الذات، وحرية المأوى، وحرية الملك، وحرية
الاعتقاد، وحرية الرأي، وحرية التعليم. ففي تأمين الفرد على هذه الحريات كفالة لحريته الشخصية، وهذا ما قرره الإسلام في شأن هذه
الحريات.
الحرية الفردية أو حرية الذات
في أحكام الإسلام ما يقرر ويؤمّن الفرد على ذاته من أي اعتداء: وذلك أن الإسلام حد حدو
داً بأوامره ونواهيه؛ وشرع لمجاوزة هذه
الحدود عقوبات، بعضها مقدرة وهي الحدود، وبعضها موكول تقديره إلى ولاة الأمر وهي التعازير، فلا جريمة إلاّ في تعدي حدود الله،
ولا عقوبة إلاّ على وفق شرع الله. واتفقت كلمة علماء الإسلام على أن العقوبات مما لا تثبت بالرأي والقياس وأنها لا تثبت إلاّ بالنص،
وجاء في القرآن الكريم قوله عز شأنه: (فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) وقوله تعالى: (فَمَن اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ). ففي النهي عن العدوان إلاّ على ظالم، وفي الأمر بأن يكون الاعتداء على الظالم مماثلاً لاعتدائه لا يزيد، وفي قصر الجريمة
على مخالفة حدود الله، ومنع تشريع العقوبات بالرأي والقياس كفالة للحرية الفردية وتأمين من الاعتداء على الذات. وجميع ما في كتاب
الله وسُنة رسوله، من النهي عن الظلم والإيذاء للمسلم والذمّي، يؤيد حرية الذات وأمان الإنسان من أذى غيره.
حرية المأوى
في أحكام الإسلام ما يكفل هذه الحرية. فإن النفي والإبعاد عقوبة لم يذكرها القرآن الكريم إلاّ جزاء للذين يحاربو
ن الله ورسوله ويسعون
في الأرض فساداً. قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَآؤُ الذَّينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَونَ فِي الأَرضِ فَسَاداً أن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهمْ
وأَرجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَو يُنفَوا مِنَ الأَرضِ ذَلِكَ خِزيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وفي القرآن الكريم والسنة تقرير حرمة المسكن قال تعالى: (يا أَيُّها الذَّينَ أَمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسلِّمُوا عَلَى
أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ، فإِن لَّم تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَإِن قِيَل لَكُمْ ارْجِعُوا فَارجِعُوا، هُوَ أَزْكَى لَكُمْ، واَللهُ
بِمَا تَعْمَلونَ عَلِيمٌ).
وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع".
حرية الملكية
الإسلام أقر هذه الحرية وكفلها بأحكام عدة:
منها أن كل ما شرعه الله من التصرفات التي تفيد نقل ملكية العين أو منفعتها، من بيع وإجارة وقرض وغيره، جعل أساس صحته ونفاذه
حرية المتصرف ورضاه واختياره. فالركن الأول لصحة المبادلات المالية التراضي والأصل في هذا قوله عز وشأنه: (يا أَيُّهَا الذَّينَ
أَمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ).
ومنها النهي في مواضع عدة في القرآن والسنة عن التعدي على مال الغير وأخذه من مالكه بغير حق، قال تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم
بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلى الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) وقال عز شأنه: (إِنَّ الذَّينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى
ظُلماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَونَ سَعِيراً).
وليس تقرير عقوبة السارق وتضمين الغاصب إلاّ ضماناً لحرية الملكية. قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وقال عليه
السلام: "ولا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، فإن أخذه فليرده عليه" وقال: "على اليد ما أخذت حتى ترد".
ومما يؤيد حق الملكية في أحكام الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم لمن كان يغبن في المبادلات "إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولي الخيار
ثلاثة أيام" ونهيه عن بيع الغرر، فإن في تجويز شرط الخيار والنهي عن بيع الغرر ضمانة لتحقق رضا المالك بالتبادل وعدم خروج
الملك من مالكه وفي نفسه شبهة قهر أو خداع له. بل إن تقرير حق الشفعة إذا نظر إليه من ناحية أنه لدفع الضرر عن الجار أو الشريك
يؤيد احترام الملكية وإحاطة المالك بما يدفع عنه الضرر ويحول بينه وبين الانتفاع بملكه
.
حرية الاعتقاد1
الإسلام أقر هذه الحرية، وترك لكل فرد الحرية التامة في أن يكّون عقيدته بناء على ما يصل إليه عقله ونظره الصحيح، وذلك أن الإسلام
جعل أساس التوحيد والإيمان البحث والنظر، لا القهر والإلجاء، ولا المحاكاة والتقليد. ففي كثير من آي الكتاب الكريم لفت الناس إلى
النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، ليهتدوا هم بهذا النظر إلى الإيمان الصحيح والدين الحق، كقوله تعالى:
(أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء)وقوله تعالى: (إنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وَاخْتِلافِ الَّليلِ
وَالنَّهارِ، وَالفُلكِ الَّتي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ، فَأَحْيَا بِهِ الأَرضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيَها مِن كُلِّ دَآبَّةٍ،
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرضِ، لأَيَاتٍ لِّقَومٍ يَعْقِلُونَ)، وفي كثير من الآي الكريمة نعى على من آمن بطريق
التقليد لا بطريق البحث والنظر، كقوله تعالى: (بل قالوا إِنَّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)، وفي كثير من الآي نفي
للإيمان بطريق الإكراه والقسر كقوله تعالى: (لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)، وكقوله تعالى: (أَفَأَنتَ تُكْرهُ النَّاسَ حَتَّى
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وكقوله تعالى: (لكمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
فإذا كان أساس الاعتقاد في الإسلام النظر العقلي والبحث والتفكير في آيات الله ولا محاكاة، ولا تقليد، ولا إلجاء، ولا إكراه، فليس أضمن
لحرية الاعتقاد من هذا. ويؤيده ما جاء في الكتاب الكريم من أنه لا سلطان للداعي غير سلطان التذكير والموعظة الحسنة، قال تعالى لرسوله: (فذَكِّر إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّستَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ).
هذا ما يؤيد حرية الاعتقاد في الإسلام وإما ما يقرره حماية إقامة الشعائر، فإن الإسلام جعل لغير المسلمين الحرية التامة في أن يقيموا
شعائر دينهم في كنائسهم ومعابدهم وجعل لهم أن يتبعوا أحكام دينهم في معاملاتهم وأحوالهم الشخصية. والأصل في هذا قوله صلى الله
عليه وسلم في شأن الذميين: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وجميع العهود التي كانت تعطى للمعاهدين كان يقرن فيها بالتأمين على الأنفس
والأموال التأمين على العقائد وإقامة الشعائر، وفي عهد عمر لأهل إيليا ما نصه "أعطاهم الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسائر ملتهم،
لا تسكن كنائسهم ولا ينقص منها ولا من خيرها ولا من صلبهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم". فالإسلام في تكوين
العقيدة أطلق للعقل عنان النظر، وفسح له في مجال البحث والتفكير في الآيات والدلائل وفي حماية عقائد المسلمين أحاطها بما يكفلها
ويحفظها وترك أرباب كل دين وما يدينون به.
حرية الرأي
الإسلام في شأن هذا الحق نظر إلى موضوع الرأي: إما أن يكون أمراً دينياً، أو غير ديني.
فإن كان الأمر غير ديني، فلكل فرد أن يبدي رأيه فيه حسبما يراه، ويُعرِب عنه بالوسيلة الميسورة له، وقد حدث في صدر الإسلام وبعده
عدة حوادث تدل على حرية الرأي وإقراره في هذه المواضع: من ذلك أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أشار على المسلمين في
بعض الغزوات أن ينزلوا موضعاً معيناً، فسأله أحد الصحابة: أهذا منزل أنزلكه الله؟ أو هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي
والحرب والمكيدة... قال الصحابي للرسول: ليس هذا بمنزل... وأشار بإنزال المسلمين منزلاً آخر، وتحولوا. واختلاف أبي بكر
وعمر في حكم الأسرى على مسمع من الرسول خبره مستفيض. وكذلك اختلاف كبار الصحابة في شأن الخلافة وكثير من الشؤون.
وأما في الأمور الدينية فلكل واحد أن يجتهد فيها، ويرى الرأي الذي يوصله إليه اجتهاده، ما دام في غيره موضع النص، ورأيه في حدود أصول الدين الكلية ونصوصه الصحيحة: وذلك أن الإسلام جعل القياس أحد أصوله، ومصدراً من مصادر التشريع فيه، والقياس هو
إلحاق الأشباه بالأشباه، والنظائر بالنظائر، لاستنباط الأحكام التي لم ينص عليها،.. وفي هذا الإلحاق والاستنباط مجال فسيح للرأي،
ومتسع عظيم للنظر، وفي جعله مصدراً تشريعياً اعتبار للرأي وتقرير لحقه.
وكذلك جاء في السنّة أن كل مجتهد مأجور: إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران. فالمئوية على الاجتهاد ـ سواء أدى إلى خطأ أو صواب ـ دليل على تقدير الإسلام للرأي، وإقراره هذا الحق.
ويؤيد هذا ما ورد في كثير من النصوص من ذم التقليد والنعي على المقلدين الذين يهملون عقولهم ولا يحررونها من أسر التقليد، وما جاء
على ألسنة كثير من المجتهدين من التصريح بأنهم ما اجتهدوا ليقلدوا، وأن آرائهم لأنفسهم وخطأهم عليها.
فليس في أصول الإسلام ونصوصه ما ينافي حرية الرأي بالمعنى الذي بيّناه، بل فيها ما يؤيده ويقرره. وأما ما ورد عن ابن عباس من
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"، وما ورد عن أبي بكر من قوله: "أي سماء تظلني
وأي أرض تقلّني إن قلت في كتاب الله برأيي؟".. فهو محمول على الرأي الذي يستند إلى مجرد الهوى ولا يعتمد على مصلحة عامة ولا
أصل ديني كلّي.
وأما ما حدث في الإسلام من سد باب الاجتهاد وإيجاب التقليد لأئمة معينين، فإن هذا ليس من مقتضى أصول الدين أو نصوصه وإنما هو
علاج لجأ إليه المتأخرون سداً لباب الفوضى، فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين، ولو وفق المسلمون إلى علاج تلك الفوضى ما كان في الإسلام مانع من الاجتهاد.
حرية التعليم
ا
لإسلام نص على أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ونفى أن يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولم ينص على أنواع معينة من العلوم وحظر ما عداها، فكل علم يوصل إلى مصلحة دنيوية أو دينية فهو مطلوب وهو حق مشاع بين أفراد الناس ذكورهم
وإناثهم. وليس في أصول الإسلام ما يدل على أنه يضيق بعلم أو يقف في سبيل تعليم بل إن في حوادث التاريخ دليلاً على أن المسلمين
وَسِعت صدورهم وبلادهم مختلف العلوم وطبقات العلماء الذين ما وجدوا في غير الإسلام متسعاً لعلومهم ونظرياتهم. وإن ما نقل إلى
العربية من علوم الفرس على يد ابن المقفع وأضرابه، وما عرب من علوم اليونان في عهد المنصور والرشيد والمأمون، وما كانت عليه
حال العلم والتعليم في معاهد بغداد وقرطبة وسمرقند، دليل على تقدير الإسلام لحرية العلم وتأييده للتعليم.
وكيف لا يتفق الإسلام وحرية التعليم، وأول أسس الإسلام أن يكون الإيمان عماده البرهان والحجة والنظر في ملكوت السماوات
والأرض! وهذا النظر يحتاج إلى مختلف العلوم وتعرف كثير من النظريات!... وكيف يكلف المسلمون بقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) إذا كان في الإسلام ما يقيد حريتهم في إعداد القوة بحظر البحث في أنواع من العلوم أو الفنون التي تتطلبها حاجات
الإعداد في مختلف العصور.
فالحقيقة الثابتة أن الإسلام يقرر حرية العلم، بل يجعل طلبه فريضة محكمة على كل مسلم ومسلمة، وما يرمى به المسلمون من اضطهاد أنواع من العلوم في بعض العصور، فليس سببه أمراً في طبيعة الإسلام. وفيما كتبه الأستاذ الإمام في كتابه "الإسلام والنصرانية مع العلم
والمدنية" مقنع لمن في نفسه ريب.
المساواة
المساواة شعار من أظهر شعائر الإسلام، ونصوصه وأحكامه ناطقة بتقريرها على أكمل وجوهها: وذلك أن الإسلام لا يفرق بين واحد وآخر في الخضوع لسلطان قانونه، وليس فيه فرد فوق القانون مهما علت منزلته، وأمير المؤمنين والوالي وكل واحد من الأفراد
متساوون في أحوالهم المدنية والجنائية، لا يمتاز واحد بحكم خاص ولا بطرق محاكمة خاصة بل جميعهم أمام القانون سواء.
وكذلك لا يميز الإسلام واحداً عن واحد في التمتّع بالحقوق: فلم يجعل منزلة أو ميزة حقاً لأفراد أسرة معينة، لا يستمتع بها سواه، بل ناط
الأمر بالعمل له، ومهد السبيل لكل عامل، فكل مناصب الدولة من أمارة المؤمنين إلى أصغر منصب فيها حق مُشاع بين أفراد الأمة، لا
يحول بينه وبينها نسب أو عصبية وينطق بهذا قوله صلى الله عليه وسلم "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" وقوله صلى الله عليه
وسلم لبني هاشم: "يا بني هاشم. لا يجئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنساب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وفي كثير من النصوص تقرير المساواة وجعلها من شعائر الإيمان، كقوله تعالى (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وقوله صلى الله عليه وسلم
"إخوانكم خدمكم" وقوله عليه السلام: "الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحمر على أسود ولا لعربي على عجمي".
وفي كثير من الأحكام تحقيق هذه المساواة: ففي الحج كلهم بلباس واحد عراة الرؤوس لا يلبسون مخيطاً، وفي الصلاة كلهم في صفوف
متساوية، وفي التناصح للوضيع على الرفيع ما للرفيع على الوضيع وفي الجنايات النفس بالنفس والعين بالعين والجروح قصاص،... وهكذا في سائر الأحكام الإسلامية الناس سواسية. وقد كانت هذه المساواة في صدر الإسلام شعار المسلمين في حربهم وسلمهم، وكان
الذميون والمعاهدون يستمتعون في بلادهم بنعمة هذه المساواة عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة".
مركز المرأة في الحياة الإسلامية القرضاوي
المرأة أُنثى
قدّر الإسلام أُنوثة المرأة، واعتبرها ـ لهذا الوصف ـ عنصراً مكملاً للرجل، كما أنه مكمل لها، فليس أحدهما خصماً للآخر، ولا ندَّا له ولا
منافساً، بل عوناً له على كمال شخصه ونوعه.
فقد اقتضت سُنَّة الله في المخلوقات، أن يكون الأزدواج من خصائصها، فنرى الذكورة والأُنوثة في عالم الإنسان والحيوان والنبات، ونرى
ا
لموجب والسالب في عالم الجمادات من الكهرباء والمغناطيس وغيرها، حتى الذًّرًّة، فيها الشحنة الكهربائية الموجبة، والشحنة السالبة (الألكترون البروتون).
وإلى ذلك أشار منذ أربعة عشر قرناً فقال: (وَمِن كُلِّ شَئٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
فالذكر والأُنثى كالعلبة وغطائها، والشيء ولازمه، لا غِنَى لأحدهما عن الآخر.
ومنذ خلق الله النفس البَشرية الأُولى ـ آدم ـ خلق منها زوجها ـ حوَّاء ـ ليسكن إليها، ولم يتركه وحده، حتى ولو كانت هذه الوحدة في
الجنَّة، وكان الخطاب الإلهي لهما معاً، أمراً ونهياً: (أسكنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا
مِنَ الظَّالِمينَ). (سورة البقرة / 35).
فالمرأة ـ بهذاـ غير الرجل، لأنها تكمله ويكملها، والشيء لا يكمل نفسه، والقرآن يقول: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) (سورة آل عمران/
36).
كما أن الموجب غير السالب، والسالب غير الموجب.
ومع هذا لم تُخلق لتكون نداً ولا خصماً، بل هي منه وله: (بعضكم من بعض) (سورة النساء/25)، (واللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجاً) (سورة النحل/72).
واقتضت حكمة الله أن يكون التكوين العضوي والنفسي للمرأة يحمل عناصر الجاذبية للرجل وقابلية الانجذاب إليه.
وركَّب الله في كل من الرجل والمرأة شَهْوة غريزية فِطرية قوية تسوقهما إلى التجاذب واللِّقاء حتى تستمر الحياة ويبقى النوع.
ومن ثَمَّ يرفض الإسلام كل نظام يصادم هذه الفِطرة ويعطلها، كنظام الرهبنة.
ولكنه حظر كل تصريف لهذه الطاقة على غير ما شرعه الله ورضيه من الزواج الذي هو أساس الأُسرة، ولهذا حرَّم الزنى، كما حرَّمته
الأديان السماوية كلها، ونهى عن الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وسدَّ كل منفذ يؤدي إلى هذه الفواحش، حماية للرجل والمرأة من
عوامل الإثارة وبواعث الفتنة والإغراء.
وعلى هذا الأساس من النظر إلى فِطرة المرأة، وما يجب أن تكون عليه في علاقتها بالرجل،
يعامل بالرجل، يعامل الإسلام المرأة، ويقيم كل نظمه وتوجيهاته وأحكامه.
إنه يرعى أُنوثتها الفِطرية، ويعترف بمقتضياتها فلا يكبتها ولا يصادرها، ولكنه يحول بينها وبين الطريق الذي يؤدي إلى ابتذالها، وامتهان
أُنوثتها، ويحميها من ذئاب البشر، وكلاب الصيد، التي تتخطف بنات حوَّاء، لتنهشها نهشاً، وتستمتع بها لحماً، ثم ترميها عظماً.
ونستطيع أن نحدد موقف الإسلام من أُنوثة المرأة فيما يلي:
1- إنه يحافظ على أُنوثتها، حتى تظل ينبوعاً لعواطف الحنان والرِّقة والجمال، ولهذا أحلَّ لها بعض ما حُرِّم على الرجال، بما تقتضيه
طبيعة الأُنثى ووظيفتها، كالتحلي بالذهب، ولُبْسِ الحرير الخالص، فقد جاء في الحديث: "إن هذين حرام على ذُكور أُمتي حِلٌ لإناثهم"2.
كما أنه حرَّم عليها كل ما يجافي هذه الأُنوثة، من التشبه بالرجال في الزي والحركة والسلوك وغيرها، فنهى أن تلبس المرأة لِبْسة
الرجل، كما نهى الرجل أن يلبس لِبْسة المرأة، وجاء في الحديث: "لعن الله الرجلَ يلبس لِبْسة المرأة، والمرأة تلبس لِبْسة الرجل"3،
ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، مثلما لعن المتشبهين من الرجال بالنساء4، وفي الحديث: "ثلاثة لا يدخلون الجنَّة ولا ينظر الله إليهم
يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة_المتشبهة بالرجال_والديُّوث"5.
والديوث: الذي لا يبالي مَن دخل على أهله.
وفي الحديث الآخر: "لعن الله الرجُلة من النساء"6.
2- وهو يحمي هذه الأُنوثة ويرعى ضعفها، فيجعلها أبداً في ظل رجل، مكفولة النفقات، مكفية الحاجات، فهي في كنف أبيها أو زوجها أو
أولادها أو إخوتها، يجب عليهم نفقتها، وفق شريعة الإسلام، فلا تضطرها الحاجة القاهرة إلى الخوض في لجج الحياة وصراعها
ومزاحمة الرجال بالمناكب من أجل لقمة العيش، وهو ما فعلته المرأة الغربية بحكم الضرورة، حيث لا يرعاها أب ولا ابن أخ ولا عم،
فاضطرت أن تقبل أي عمل، وبأي أجر، وقاية من الهلاك
.
3- وهو يحافظ على خُلُقها وحيائها، ويحرص على سمعتها وكرامتها، ويصون عفافها من خواطر السوء، وألسنة السوء ـ فضلاً عن
أيدي السوءِ ـ أن تمتد إليها.
ولهذا يوجب الإسلام عليها:
(أ) الغض من بصرها والمحافظة على عفِتَّها ونظافتها: (وَقُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (سورة النور/
31).
(ب) الاحتشام والتستر في لباسها وزينتها دون إعنات لها، ولا تضييق عليها: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَليَضْرِبْنَ بِخُمُرهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (سورة النور/31). وقد فسر: (ما ظَهَرَ مِنْهَا) بالكحل والخاتم، وبالوجه والكفين، وزاد بعضهم: القدمين.
(ج) ألا تبدى زينتها الخفية _كالشَعر والعنق والنَّحر والذراعين والساقين_ إلا لزوجها ومحارمها الذين يشق عليها أن تستتر منهم
استتارها من الأجانب: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَليَضْرِبْنَ بِخُمُرهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَو أَبائِهِنَّ أَو
أَباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو أَبنَائِهنَّ أَو أَبنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو إِخوَانِهِنَّ أَو بَنِي إِخْوَانِهنَّ أَو بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَو نِسَائِهنَّ أَو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَو التَّابِعِينَ غَيْرِ
أُولِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَو الطِّفْلِ الذَّينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) (سورة النور/31).
(د) أن تتوقر في مشيتها وكلامها: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (سورة النور/31)، (فلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ
الَّذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً) (الأحزاب/32). فليست ممنوعة من الكلام، وليس صوتها عورة! بل هي مأمورة أن تقول قولاً معروفاً.
(ه) أن تتجنب كل ما يجذب انتباه الرجل إليها، ويغريه بها، من تبرج الجاهلية الأُولى أو الأخيرة، فهذا ليس من خُلُق المرأة العفيفة. وفي الحديث: "أيُمَا امرأة استعطرت ثم خرجت من بيتها ليشم الناس ريحها فهي زانية"7. أي تفعل فعلها، وإن لم تكن كذلك، فيجب أن
تتنزَّه عن هذا السلوك.
(و) أن تمتنع عن الخلوة بأي رجل ليس زوجها ولا مَحْرَماً لها، صوناً لنفسها ونفسه من هَواجس الإثم، ولسمعتها من ألسنة الزور: "لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ، ولا تسافرنَّ امرأة، إلا ومعها مَحْرم"8.
(ز) ألا تختلط بمجتمع الرجال الأجانب إلا لحاجة داعية، ومصلحة معتبرة، وبالقدر اللازم، كالصلاة في المسجد، وطلب العلم، والتعاون
على البر والتقوى، بحيث لا تُحرم المرأة من المشاركة في خدمة مجتمعها، ولا تنسى الحدود الشرعية في لقاء الرجال
.
إنَّ الإسلام بهذه الأحكام يحمي أُنوثة المرأة من أنياب المفترسين من ناحية، ويحفظ عليها حياءها وعفافها بالبُعْد عن عوامل الانحراف
والتضليل من ناحية ثانية، ويصون عِرْضها من ألسنة المفترين والمرجفين من ناحية ثالثة، وهو ـ مع هذا كله ـ يحافظ على نفسها
وأعصابها من التوتر والقلق، ومن الهزَّات والاضطرابات، نتيجة لجموح الخيال، وانشغال القلب، وتوزع عواطفه بين شتَّى المثيرات
والمهيِّجات.
وهو أيضاً ـ بهذه الأحكام والتشريعات ـ يحمي الرجل من عوامل الانحراف والقلق، ويحمي الأُسرة من أسباب التفكك، ويحمي الأُسرة
من أسباب التفكك، ويحمي المجتمع كله من عوامل السقوط والانحلال.
* الاختلاط المشروع:
دخلت مجتمعنا الحديث كلمات أصبح لها دلالات لم تكن لها من قبل. من ذلك كلمة "الاختلاط" بين الرجل والمرأة. فقد كانت المرأة
المسلمة ـ في عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين ـ تلقى الرجل، وكان الرجل يلقى المرأة، في مناسبات مختلفة، دينية ودنيوية، ولم
يك ذلك ممنوعاً بإطلاق، بل كان مشروعاً إذا وُجِدت أسبابه، وتوافرت ضوابطه، ولم يكونوا يسمون ذلك "اختلاطاً".
ثم شاعت هذه الكلمة في العصر الحديث ـ ولا أدري متى بدأ استعمالها ـ بما لها من إيحاء، ينفر منه حس المسلم والمسلمة؛ لأن خلط
شيء بشيء يعني إذابته فيه، كخلط الملح أو السكر بالماء.
المهم أن نؤكد هنا أن ليس كل اختلاط ممنوعاً، كما يتصور ذلك ويُصورِّه دعاة التشديد والتضييق، وليس كذلك كل اختلاط مشروعاً، كما
يروِّج لذلك دعاة التبعية والتغريب.
والذي أود أن أذكره هنا: أنَّ الواجب علينا أن نلتزم بخير الهَدْى، وهو هَدْى مح
مد صلى الله عليه وسلم، وهَدْى خلفائه الراشدين،
وأصحابه المهديين، الذين أُمِرنا أن نتبع سُنَّتهم، وأن نعض عليها بالنواجذ، بعيداً عن نهج الغرب المتحلل، ونهج الشرق المتشدد.
والمتأمل في خير الهَدْى يرى: أن المرأة لم تكن مسجونة ولا معزولة، كما حدث ذلك في عصور تخلف المسلمين.
فقد كانت المرأة تشهد الجماعة والجمعة، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: صلاة العشاء وصلاة الفجر، وكان عليه
الصلاة والسلام يحثهن على أن يتخذن مكانهن في الصفوف الأخيرة خلف صفوف الرجال، وكلما كان الصف أقرب إلى المؤخرة كان
أفضل، خشية أن تظهر من عورات الرجال شيء، وكان أكثرهم لا يعرفون السراويل، ولم يكن بين الرجال والنساء أي حائل من بناء أو
خشب أو نسيج، أو غيره....
وكانوا في أول الأمر يدخل الرجال والنساء من أي باب اتفق لهم، فيحدث نوع من التزاحم عند الدخول والخروج، فقال عليه الصلاة
والسلام: "لو تركنا هذا الباب للنساء"9، فخصَّصوه بعد ذلك لهن، وصار يُعرف إلى اليوم باسم "باب النساء".
وكان النساء في عصر النبوة يحضرن الجمعة، ويسمعن الخُطبة، حتى إنَّ إحداهن حفظت سورة "ق" من فِي رسول الله صلى الله عليه
وسلم من طول ما سمعتها من فوق منبر الجمعة
.
وكان النساء يحضرن كذلك صلاة العيدين، ويشاركن في هذا المهرجان الإسلامي الكبير، الذي يضم الكبار والصغار، والرجال والنساء، في الخلاء مهلِّلين مكبِّرين.
روى مسلم عن أُم عطية قالت: "كنا نؤمر بالخروج في العيدين، والمخبأة والبِكر".
وفي رواية قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُخرجهن في الفِطر والأضحى: العواتق والحُيَّض وذوات الخدور، فأما
الحُيَّض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله؛ إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: "لِتُلْبِسْهَا أُختها من
جلبابها"10.
وهذه سُنَّة أماتها المسلمون في جُلِّ البلدان أو في كلها، إلا ما قام به مؤخراً شباب الصَحْوة الإسلامية الذين أحيوا بعض ما مات من السُنَن
مثل سُنَّة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وسُنَّة شهود النساء صلاة العيد. وذلك في بعض البلدان الإسلامية التي قويت فيها الصَحْوة وارتفعت رايتها.
وكان النساء يحضرون دروس العلم، مع الرجال عند النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألن عن أمر دينهن مما قد يستحي منه الكثيرات اليوم، حتى أثنت عائشة رضي الله عنها على نساء الأنصار، أنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، فطالما سألن عن الجنابة والاحتلام والاغتسال والحيض والاستحاضة ونحوها.
ولم يشبع ذلك نهمهن لمزاحمة الرجال واستئثارهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبن أن يجعل لهن يوماً يكون لهنَّ خاصة، لا يغالبهنَّ الرجال ولا يزاحمونهم وقلن في ذلك صراحة: "يا رسول الله؛ قد غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك" فوعدهنَّ يوماً،
فلقيهنَّ فيه ووعظهنَّ وأمرهنَّ11.
وتجاوز هذا النشاط النسائي إلى المشاركة في المجهود الحربي في خدمة الجيش والمجاهدين، بما يقدرنَ عليه ويحسنَّ القيام به، من
التمريض والإسعاف، ورعاية الجرحى والمصابين، بجوار الخدمات الأُخرى من الطهي والسقي وإعداد ما يحتاج إليه المجاهدون من
أشياء مدنية.
عن أُم عطية قالت: "غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى"12.
وروى مسلم عن أنس: "أن عائشة رضي الله عنها وأُم سليم، كانتا في يوم أُحُد" مشمِّرتين، تنقلان القِرَب على متونهما (ظهورهما) ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها"13، ووجود عائشة هنا ـ وهي في العقد الثاني من عمرها ـ يرد الذين ادّعوا أنَّ الاشتراك في الغزوات والمعارك كان مقصوراً على العجائز والمتقدمات في السن، فهذا مُسَلَّم. وماذا تغني العجائز في مثل هذه المواقف التي تتطلب القدرة البدنية والنفسية معاً؟
وروى الإمام أحمد: أنَّ ست نسوة من نساء المؤمنين كنَّ مع الجيش الذي حاصر "خيبر": يتناولن السهام، ويسقين السويق، ويداوين
الجرحى، ويغزلن الشَّعر، ويعنَّ في سبيل الله، وقد أعطاهنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نصيباً من الغنيمة14.
بل صحّ أن نساء بعض الصحابة شاركن في بعض الغزوات والمعارك الإسلامية بحمل السلاح، عندما أُتيحت لهنَّ الفرصة، ومعروف ما
قامت به أُم عمارة نسيبة بنت كعب يوم "أُحُد" حتى قال عنها صلى الله عليه وسلم: "لمقامها خير من مقام فلان وفلان"15.
وكذلك اتخذت أُم سليم خنجراً يوم "حُنَين"، تبقر به بطن مَن يقترب منها.
روى مسلم عن أنس ابنها: أنَّ أُم سليم اتخذت يوم "حُنَين" خنجراً، فكان معها، فرآها أبو طلحة (زوجها) فقال: يا رسول الله؛ هذه أُم
سليم معها خنجر! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الخنجر"؟ قالت: اتخذته، إن دنا مني أحد المشركين بقرتُ به بطنه! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك16.
وقد عقد البخاري باباً في "صحيحه" في غزو النساء وقتالهن.
ولم يقف طموح المرأة المسلمة في عهد النبوة والصحابة للمشاركة في الغزو عند المعارك المجاورة والقريبة في الأرض العربية كخبير وحُنَين، بل طمحن إلى ركوب البحار، والإسهام في فتح الأقطار البعيدة لإبلاغها رسالة الإسلام.
ففي صحيح البخاري ومسلم عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عند أُم حرام بنت ملحان (خالة أنس) يوماً، ثم استيقظ
وهو يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أُمتي عُرِضوا علىَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكاً
على الأَسِرَّة ـ أو مثل الملوك على الأَسِرَّة"، قالت: فقلت: يا رسول الله؛ ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها17.. فركبت أُم حرام البحر
في زمن عثمان، رضي الله عنه مع زوجها عبادة بن الصامت إلى قبرص، فصُرِعت عن دابتها هناك، فتوفيت ودُفِنت هناك، كما ذكر أهل السير والتاريخ
.
وفي الحياة الاجتماعية شاركت المرأة داعية إلى الخير، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، كما قال تعالى: (وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْليَاءُ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ...) (التوبة/71).
ومن الوقائع المشهورة رد إحدى المسلمات على عمر رضي الله عنه في المسجد في قضية المهور، ورجوعه إلى رأيها علناً، وقوله: "كل الناس أفقه
من عمر"!. وقد ذكرها ابن كثير في تفسير سورة النساء ونسبها إلى أبي يعلى في مسنده، وقال: إسنادها جيد قوي18.
وفي رواية عند عبد الرزاق أن عمررضي الله عنه قال: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته19!: أي غلبته.
وقد عيَّن عمر في خلافته الشِفاء بنت عبد الله العدوية محتسبة على السوق. والمتأمل في القرآن الكريم وحديثه عن المرأة في مختلف
العصور، وفي حياة الرسل والأنبياء لا يشعر بهذا الستار الحديدي الذي وضعه بعض الناس بين الرجل والمرأة.
فنجد موسى ـ وهو في ريعان شبابه وقوّته ـ يحادث الفتاتين ابنتي الشيخ الكبير، ويسألهما وتجيبانه بلا تأثم ولا حَرَج، ويعاونهما في شهامة
ومروءة، وتأتيه إحداهما بعد ذلك مرسِلة من أبيها تدعوه أن يذهب معها إلى والدها، ثم تقترح إحداهما على أبيها بعد ذلك أن يستخدمه
عنده؛ لما لمست فيه من قوة وأمانة.
لنقرأ في ذلك ما جاء في سورة القصص: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا
خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلتَ إلىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ،
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِن أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ
القَوْمِ الظَّالمِينَ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَأَبَتِ اسْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مِنَ استَئْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ) (سورة القصص/23-26).
وفي قضية مريم نجد زكريا يدخل عليها المحراب، ويسألها عن الرزق الذي يجده عندها: (كلما دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَريَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنَدهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالتَ هُوَ مِنَ عِنَد اللهِ أَنَّ اللهَ يَرْزُقُ مِنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (سورة آل عمران/37)
.
وفي قصة ملكة سبأ نراها تجمع قومها تستشيرهم في أمر سليمان:
(قَالَت يَأَيُّهَا المَلَؤُا أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ، قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَـأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا
تَأْمُرِينَ، قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعزَّةَ أَهْلِهَا أَذلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (سورة النمل/32-34).
وكذلك تحدَّثت مع سليمان عليه السلام وتحدَّث معها: (فلما جَاءَتْ قِيَل أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ،
وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ، قِيَل لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ
صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (سورة النمل/42-44).
ولا يُقال: إنَّ هذا شرع مَن قبلنا فلا يلزمنا؛ فإنَّ القرآن لم يذكره لنا إلا لأن فيه هداية وذكرى وعبرة لأُلى الألباب، ولهذا كان القول
الصحيح: أنَّ شرع مَن قبلنا المذكور في القرآن والسُّنَّة هو شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه. وقد قال تعالى لرسوله: (أُولئِكَ
الذَّينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَهُمُ اقْتَدِهْ) (سورة الأنعام/90).
إنَّ إمساك المرأة في البيت، وإبقاءها بين جدرانه الأربعة لا تخرج منه اعتبره القرآن ـ في مرحلة من مراحل تدرج التشريع قبل الفاحشة
من نساء المسلمين، وفي هذا يقول تعالى في سورة النساء: (وَالَّتي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَربَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا
فَأَمْسِكُوُهنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّهُنَّ المَوْتُ أَو يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (سورة النساء/15).
وقد جعل الله لهنَّ سبيلاً بعد ذلك حينما شرع الحد، وهو العقوبة المقدَّرة في الشرع حقاً لله تعالى، وهي الجَلْد الذي جاء به القرآن لغير
المحصن، والرجم الذي جاءت به السُّنَّة للمحصن.
فكيف يستقيم في منطق القرآن والإسلام أن يُجعل الحبس في البيت صفة ملازمة للمسلمة الملتزمة المحتشمة، كأننا بهذا نعاقبها عقوبة دائمة وهي لم تقترف إثماً؟
والخلاصة: أنَّ اللِّقاء بين الرجال والنساء في ذاته إذن ليس محرَّماً، بل هو جائز أو مطلوب إذا كان القصد منه المشاركة في هدف نبيل،
من علم نافع أو عمل صالح، أو مشروع خير، أو جهاد لازم، أو غير ذلك مما يتطلب جهوداً متضافرة من الجنسين، ويتطلب تعاوناً مشتركاً بينهما في التخطيط والتوجيه وال