الأسير القائد جمال أبو الهيجاء وتسع سنوات من الثبات

قد تغيب الشمس ولكن ذكراهم وآثارهم لا تغيب ، قد يُفلّ الحديد ولكن هممهم وصبرهم لا يَفِلّ ، وقد تستطيع سحب السماء أن تحجب القمر ولكن ذكراه لن تستطيع السنين أن تمحوها من ذاكرة من عرفوه وتربوا في مدرسته وسمعوا هدير صوته وقت الميمعان حينما تجمع الشباب من حوله فكان لهم الدرع الحامي وصاحب الصوت الذي كان يطمئن القلوب في ساحة المعركة معركة مخيم جنين.
في مخيم جنين الذي لجأ له سيد الأسرى والمعتقلين الشيخ جمال أبو الهيجاء وقف الفارس مبتور اليد يحمل سلاحه على كتفه يجهز الشباب يبث في صدورهم الحمية يوصيهم بعدم التولي وقت الزحف ويرغب بالجنان ويقول لهم اليوم سنهزم شارون.
اشتد الخطب على الشباب فكان صوت جمال أبو الهيجاء يلعلع في المكان يزأر وينادي اليوم نلقى الأحبة اليوم نلقى من سبقونا للجنان الثبات الثبات يا رجال يلاقيه صوت رصاص أبي جندل نحن معك يا شيخ وأقسم بمن رفع السماء أننا سنلقن شارون درساً في فن البطولة والفداء ، ومن هناك ينادي الطوالبة رفاق الجهاد اليوم يوم الملحمة.
توحدت فتح وحماس والجهاد والجبهتين خلف البندقية وضد العدو ومن اغتصب الأرض وضرب الشيخ جمال أبو الهيجاء ومن معه صوراً من أروع الصور فكانت الملحمة وكانت جنين الأسطورة وكان مخيم جنين علامة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية وصورة من أروع الصور التي يمكن للتاريخ أن يرويها عنا يوم كنا في ساح الفدا فرساناً.
كان مراسل الجزيرة يسأل الشيخ جمال أبو الهيجاء وقت المعركة في وسط الحرب الطاحنة وطائرات العدو تدك بيوت الآمنين : بصفتك أحد قادة كتائب القسام والناطق باسمها كم المدة التي تستطيعون فيها الصمود.... رد الشيخ بصوت مجلجل كنا نعرفه ونسمعه وهو يخطب في الناس من على المنابر أو من داخل السجون التي أمضى بها دهراً من الزمان في مخيم جنين لا فصائل ولا أحزاب فيه فقط رجال ومقاومون وأنا ناطق باسم كل الفصائل في هذا المخيم نستطيع الصبر أشهراً وأياما ولن يهزم جيش المقاومين في مخيم جنين ... قاطعه المراسل وقال له ماذا تريد من الأمة هل من رسائل توجهها للعرب والمسلمين والشعوب... قال له نريد من الأمة أن تعلم أننا رأس حربتها ونحن من نذود عن حمى القدس والأقصى نريد فقط أن تدعو لنا... سأله مرة أخرى لماذا لا تنسحب يا شيخ من المخيم فقال له يا أخي القادة لا ينسحبون القادة يواجهون ويقاومون هكذا نعرف القادة وفجأة قطع الصوت وبعد دقائق تناقلت المحطات أخبار أن الشيخ استشهد وأخبار أخرى أن الفارس الصنديد اعتقل , عشنا ساعات قاسية عيوننا لا تفارق شاشات التلفاز تنتظر خبراً يطمئننا على الشيخ الذي أحببناه والذي كان يمثل لنا آخر قلاع الصمود.
اعتقل الشيخ وقاده حتفه إلى أحد مراكز التحقيق ومورس بحقه أبشع صنوف العذاب أقسموا له أنه سيتمنى الموت ولن يلقاه كانوا يقيدون يده بقدمه ويضربونه مكان اليد المبتورة ويلعبون بأسلحتهم بجراح يده التي لم تدمل بعد، اعتقاله ومرافقه الفارس إسلام جرار ... ضغطوا عليه ضربوه حرموه من النوم اعتقلوا كل أفراد أسرته .. زوجته المجاهدة الصابرة أم عبد السلام ولده عبد السلام وعماد وعاصم وابنته بنان وما اهتز له رمش كان يقول هذه طريق المجاهدين.
تسع سنوات هي التي مرت حتى الآن على اعتقال الشيخ جمال اسمه لم يفارق ساحات الإعلام وذكره على الدوام وتصر إسرائيل التي تعزل الشيخ أن لا يكون ضمن أي صفقة تبادل لما للشيخ من أثر وتأثير ومكانة ولكنها ليست هي من تقرر وتختار من سيخرج ومن سيبقى.
في الذكرى التاسعة لاعتقال الشيخ والمعلم والقائد والأسير جمال أبو الهيجاء تملكني شعور غريب حينما قررت الكتابة وخلْتُ نفسي مع الشيخ في عزله وحيداً من دون أنيس من البشر بيد واحدة محروم من زيارة أهله وذويه، الأمراض تداهم جسده وسنون العمر تمر وعلامات الكبر تفرض نفسها والزوائد اللحمية تعيق البصر لأنها تسدل نفسها على وجهه الكريم.
وتذكرت كيف استقبل نبأ اعتقال زوجته وكيف كان شعوره لما اختطفت كريمته وكيف كان يدعو لأولاده وهو في الأسر وكيف شاهد منزله أثراً بعد عين بعد أن دمرته الطائرات الإسرائيلية وقلت : رجل يستطيع أن يتحمل كل هذه الشدائد والمصائب وما زال يبتسم ويخرج الرسائل لأولاده يوصيهم بالثبات ويحثهم على الفضائل ويشاركهم همومهم ويقترح عليهم مشاريع ويمدهم بالأفكار رجل من طراز فريد ومدرسة من نوع خاص وحكاية ليست كباقي الحكايات.
تشرفت بزيارة منزل الشيخ مرات عديدة في كل مرة كنت أكتشف شيئاً جميلاً عن هذه الأسرة المجاهدة الطيبة كحب الآخرين والتفاني واستصغار كل ما أصابهم ، وحبهم لأبيهم الذي لا حدود له وفخرهم وفخارهم بوالدهم الذي خلف لهم مجدًا وعزاً وسؤدداً.
تسليطنا الضوء على مثل هذه النماذج يساهم ويساعد في تفكيك شيفرة مخيم جنين الأسطورة ويجعلنا أكثر فهماً لما حدث فلولا وجود مثل هذه النوعيات لما صمدت جنين ولما كانت حكاية المخيم الأبي.
في ذكراك التاسعة أستاذ الجميع جمال أبو الهيجاء نقول لك أننا كلنا مدينون لك بالعز الذي أورثتنا إياه وبالنصر الذي وصلنا له فلولا ثباتك سيد الرجال ولولا تضحياتك أنت وأمثالك لما كنا ولما صرنا ولما ذكرنا.
في ذكراك يا من لم تنتظر أن تجني ثماراً ولا أن تحصد مراكز ومواقع تسلط عليها الأضواء واخترت لنفسك زنزانة رطبة صغيرة فيها تدنو لربك تخاطبه وتناجيه نقول لك لقد ورثنا منك كل ما يجعلنا نفخر بماضينا ونغض الطرف عن عيوب حاضرنا ونترقب مستقبلنا لعلك تكون فيه معنا تصحح اعوجاجنا وتلهمنا من ضحكاتك وسكنات روحك وكلامك ما يحقق أهدافنا.
شيخ جمال نحبك ويحبك الجميع وسنفخر بك ولن نقول لك صبراً لأن الصبر أنت وأنت الصبر يا رجل..

التوقیع/

سلمی

» الأسير الفلسطيني وفسحة الموت
» الأسير مجدي العجولي واثنان وعشرون عاماً من الانتظار
» جمال خلق الله
» جمال شخصيتك في ( لا )،( لماذا )،( إذن )
» القائد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي